الأربعاء، 2 يونيو 2010

إنشاد حامل الجمر " نشيج الواقع الأسطوري " -حسين عبداللطيف



إنشاد حامل الجمر

" نشيج الواقع الأسطوري "


حسين عبداللطيف




يتشقق كلّ حي لا يجد حريته

فانوساً ينير مسالكه

تحملْ

تحملْ

تحملْ

وابتسم



ماذا يريد هذا ( الديوجيني ) ذو السحنة الغامضة ، الذي يعرج من الحبّ ، ويتصاعد بالرؤى ، وهو يرفع مصباحه في وضح النهار ، وابتسامة السخرية ترتسم على شفتيه ، أن يرى ؟ حـديقة مزهرة ! .. مرعى تمرح فيه الغزلان ! أم إزاحة الظل عن كتابة تركّز على السلب والطرد وغايتها نفي ما هو مرذول وقائم ، في واقع مدلهم مسور بالرعب والتوتر والشظايا والرماد مسلوب الإرادة ، اسود ومنخور ، أتراه يحلق عاليا في أجواء فضاءاته الشرقية ، بعد ، بإصرار من لا يريد أن يبطل حلماً طموحاً أو أن تبارح عينيه النجوم ومن أين يتأتى لحنجرة ينبعث منها الدخان ان تتراسل معنا بالصداح :



كوكو ريكو

يفزع السادة

صوت مجنون



في " انشاد حامل الجمر " المجموعة الأخيرة لعادل مردان – دار أزمنة – عمان – 2008 – بعد عملية : فضاءات شرقية – دار الواح – اسبانيا 1999 ومن " من لا تحضره السكينة " – البصرة 2006 ربما على وجه الظن لا التأكيد – وجدنا في عنوانها ما يتصادى مع عنوان هايدغر " انشاد المنادي " الذي يحلل فيه شعر هولدرلن وتراكل .. ولكن المهم ليس هذا وانما المهم تداعيات هذا الواقع وانعكاساته علينا ثم ردود أفعالنا تجاهه بتحديه والجرأة عليه – دون استجداء – ومدّ اللسان له او الأستخفاف به :



بواقية السوَفان البيضاء

أحكي عن مدينة بلقع

رجالها يرتدون التزامت فرحين

حيث المزابل تفتح أفخاذها

للمزينة سواعدهم بالعقارب

حين يتم السحاق الضوئي

تولد مزابل أخرى




وما أن يجتاز تعثرنا ونتجاوزه حتى تعترضنا متوالية " بؤس فون " الورقة السابقة :



الفضاء يعتم ويضيق برعب

سيقطعنا الوقت :

لا عليك عجّلْ بالحتف

ها أنا استنفد و لا تأتي كلمة

البؤس ( مايسترو ) عيشنا

يملأ الجهات ضجيجاً ....




هذا هو الواقع العجائبي ، الأسطوري ، الذي ترفرف الغربان على أكتافه وينعق الخوف في شوارعه والذي يبدو وكأن المخيلة قد صنعته بعد أن استردت منه حقوقها كاملة غير منقوصة وعلى المنهج السريالي ، وقد بات مألوفاً فاضطرّنا لأن نتكيّف معه ونرضخ للعيش فيه ولشدة مألوفيته فما عاد يثير استغرابنا حتى وهو يسمنا بوسمه الناري ..



مع هذا فهذا الواقع الغرائبي المعيش هو نفسه الذي وفّر مناخات إنشاد حامل الجمر وأتاح له حرية الحركة والاستدارة والالتقاط وزاوية النظر وأيضاً الازدراء والاستخفاف والتهكم الى كونه مثابة او مرجعية للنصوص فقد كفل له دعوة متلقيه ليشاركه مائدته التي وضع عليها قطوفه الدانية من فاكهة الموسم ( الرصاصية ) وكرومه العنقودية وجراره المترعة بانبذة المرارة لا الماء النمير .. وثمة لهجة مخففة هنا – ليست سهلة أو بسيطة على أي حال – من ناحية الأسلوب أو صيغة التعبير – تبتعد عن التجريد والذهانية والغموض أو الترميز العويص تطلباً لاستجابة ملموسة من هذا المتلقي الذي عقد معه حلفاً – وهو يحنو عليه – بهذا المنحى ليخفف عنه العبء :




· النهار ينسلخ من الليل ، يدوّن مذكراته

العجائبية على وجوهنا .

· تدور دورتنا الكونية

مزلزل تاسوعها النيساني

· لو شاء لصرخ زقاق من التبرم

هكذا يستحث الأرقم عودته

فيلتف زقاق على نفسه

مزبلة أثر مزبلة

· أهيم على وجهي

تتشقق أقدامي في الوحل

شقية أمتي

زفيرها جمر

ولكن : لو كانت الأوطان مقطوعات موسيقية

لسهل حفظها عن ظهر قلب




واذ هي ليست كذلك فهو يكتب لكي يسكّن الألم ويرد على المرارة بالهزء .. والضحك – هنا – بموازاة الدمع والوجه طائر يتعذب ونحن معه :



نروح الى ارثنا بدموع زاهرة

في قلوبنا آب ذبحنا تموزه على الأمل

ولذا فالسكينة لا تحضر أحداً .... حتى لو نفض الشاعر يديه من هذا الواقع وانتهى منه فانه سيعود الى نفسه ، هذه المرة ، ليكشف عما في سريرتها او دخيلتها نازعا الى استبطانها وهو يتخارج مع واقعه هذا فهو ( على مسرح نفسه الضاج ) يحاور رسيله الآخر او يخاطب شبحه هو وأناه هذا الذي يمسك بتلابيبه ليذعنه لضغوطه وقسريته :




أدين لك بكل شيء

ملهمي و " على الراس "

بيدك الساحرة

بعيونك الألف

بإقدامك الوطاويط

صوفي الطريقة في النهار

ذرائعي محنّك بعد المغيب

خوارقك لا تعد

تلعب ( الدومينو ) مع المردة

لا لست حارسك الروحي

أنا وفيّك البار

بعد اربع كؤوس ينقلب المشهد

على مسرح نفسي الضاج

يجرّك ألمي من الأذن

ويقدّمك لجمهور من المظلات

وبعد هذه الديباجة التصويرية الفنطازية ودعاباتها السوداء ، نخرج الى نصـــه الأطول " لا تتأخر عند اللمح " الذي يتماهى فيه مع " المتنبي " السيف النائم والخيول الفارة ،متحدثاً عن محنته وسارداً لمثابات حياته وامثولاته منتهياً الى تمجيد الجوهري فيه :




محض كلام أنت

تذوب

وتسمو

بألوهة الشعر

وهكذا فلا مواز ٍ للكلمة سوى الأمل




وحامل الجمر يعامل " جلمود " و " ضيم " اسمي النكرة هذين لا بوصفهما إسما نكرة بل بوصفهما اسمي علم ومعرفة أو " كائناً " مثلما فعل رينيه شار مع شخصية " ريشة " التي أخترعها :




" ضيم " يغفو بمنامته المثقّبة وجهه متورم

احلقها لحية خرقاء ، اقرأ في برودة الضحوة

جذفْ في صيهود المولدات ، صحارى الغد أمامك

اصدح " ضيم " تنفتح انسكلوبيديا الفراغ

اغرزْ في قلب البركة حراشفك وارتعشْ

وفي " نشيد اللهب " نقرأ

في غابة اللهب يخطف السمندل

تتصاعد بالرؤى ، فالجمرات أنيسك

وحدك مع أطياف العسجد

يأخذك رواة .. ويسلمك رواة

حالماً بخليقة أخرى

فهل يمكن الأفلات من الطوق ؟

وهذا أدونيس يؤكد ان " الماء وحده ليس جواباً على العطش " وهو يرينا :

" النار في كل صوب ، أين ، اذاً ، سمندلات الحرية

التي حوّل النار الى ماء ؟ "

وحتى لو أمتلأت الأيدي بالماء أو ابتلت به الأرواح فـ " الماء وحده ليس جواباً على العطش " كما يعود ادونيس ثانية ليؤكّد .. فلا أحد يتمكن تماما من الانسلاخ عن جلده

وهل ثمة ماء ؟ وهل ثمة أمل ؟


أما يزال جان دمو يقطن ببيجامته التي هرعت معه من شارع النهر حتى سدني في استراليا ولم تُخمد بثاني اوكسيد كاربونها النارَ المشبوبة فيه ومن حوله !


والى أي وقت سيبقى حامل الجمر على نشيجه متقداً هكذا ؟




تكركر الكلمة

الكلمة نبع

تبكي الكلمة

الكلمة ينبوع



* شاعر عراقي



العـــــودة للعـــــــدد الثالث


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق