سكنى المكان
* د أسعد ألأسدي
مع ان المدينة التي نسكن فيها واحدة ، غير ان مداخل الوصول اليها والنفاذ داخلها ليست واحدة ، اذ ان لكل منا مدخله الى المدينة ومساراته فيها ، وصورتها المتفردة التي نبنيها ، وسعادتنا التي نجنيها ، ونحن نتلقى كرم الوجود وهو يأتي بفعل المعرفة ، بما هو خاصتنا ومدينتنا وعالمنا . ومع ان في المدينة سواك ، فالخلاص في ان تنفذ الى ماترى ، وان تقدم للاخرين قولا مختلفا عما ألفوه .
في العمارة ، الجسد الذي نسكنه ويسكننا ، هو الذي يتلمس المكان ، اذ يلجأ الى الارض ويتحسس الجدران والسقوف ، تعترض خطواته الاعمدة والسطوح البنائية . الجسد الذي يصعب ايهامه ، ليكون انشغال العمارة بالمكان حدثا واقعيا ، بوصفها فنا مكانيا يستهلك المكان ويعيد انتاجه . ومع ان في قدرة العمارة قراءة المكان وتأويله ، غير ان ذلك يتجسد ماديا في ما يطال المكان من تحول ، ليكون ما تعتقده العمارة عن المكان هو ما تقوله في صورة مكان ، في حضور الاشياء واستحضارها ، وفي سعيها لبناء الالفة بين تلك الاشياء والوصول بذلك الى صورة العالم . يقول ( بورخس ) ( ... يقبل المرء بهذه الاشياء المتنافرة التي نسميها العالم لمجرد انها توجد معا ) . أذ في وجود الاشياء معا مدخل لقبولها . ونحن نضع الاشياء معا لأنها مقبولة ، بمثل قبولنا تلك الاشياء لأنها موجودة معا . فالمسألة في العالم سكن كل الأشياء هو حال وجود تلك الاشياء . ومع ان لكل موجود في العالم مكانه الذي لايشغله سواه ، ومع ان المكان في العالم متصل في كل تحولاته ، فأن مهمة العمارة ان تجاور الاشياء والامكنة وان تداخلها ، او ان تتعمد مباعدتها وعزلها عن بعضها . فالوجود معا حال ذا عواقب شعورية وذهنية مختلفة ، وقد لا يكون التوافق في نمط وجود الاشياء وحده ممكنا او مقبولا ، اذ ليس قليل القيمة بذاته ان توجد الاشياء لصق بعضها ، فهو حال يصعب اختزاله ، غير أننا في الابداع نعيد ترتيبه ، كي يؤدي الى تكافل الأشياء وتوصلها لبناء عوالم متمايزة تبني في الحوار علاقات ذات دلالة .
تحاول العمارة ان تبني في المكان تفرده ، في الخارج حيث يسكن المبنى امكنة غير متماثلة ، تكون مهمته تلمس معطياتها ، في حوار يتكفل المبنى مباشرته . ويحدث في العمارة ان يتحول المكان الى لا مكان ، عندما تفشل الابنية في تلقي مكانها حيث تحل ، ويصبح في حضورها اللامنتمي الى عالم يرعاها اقتراف لا عمارة ، يعجز مكانها الذي تلده ان يكون مكانا . اذ ان ما يتوجب على العمارة بلوغه ، هو إيقاظ المكان في اللامكان بوصفه الممكن الذي يجهز للحضور .
كما يتولد المبنى في الداخل في مدى ما يتولد عنه ، وهو مبنى يختلف عن سواه في اختلاف ما يأتي به من مكان ، حيث تستعاد حكاية الفعل الانساني في رواية جديدة ، فيكون العيش في المبنى غير ما تعودناه ، هروبا من عودة الفعل نحو افق حكايته . وبذلك يتكفل المكان بتجلية القصد والمعنى ، وهو يستحيل بعدا للوجود الانساني وليس محض فضاء لحضور ذلك الوجود .
واذ تجدك مشغولا بعمق في مبنى تصوغ فضاءاته الداخلية محاطة بسواها ، وهو يبدأ حواره حيث يسكن شارعا في المدينة ، يداهمك الفضاء الخلفي المهمل ، في هدوء وصمت ، ساخرا كمن يدري ان لا مفر منه . تسأل هل ثمة اماكن سلب ما نعتني به من اماكن ، بفعل تمايز الاستعمالات وتعالق الفضاءات ، لتستحيل الامكنة الى امكنة خادمة واخرى مخدومة ، او امكنة داخل الامكنة واخرى خارجها ، وامكنة ثالثة تصل بين الامكنة ، دون ان يتردى المكان بذلك الى لا مكان . واذ تواصل العمارة مهمتها ، تأتي ببعض الاماكن الى الضوء وتذهب بأخرى الى الظل ، غير انها لا تهمل في كل حال إيقاظ المكان في اللامكان ، اذ تعتني ايضا بالفضاء الخلفي المهمل بوصفه فضاءا خلفيا مهملا .
كما تديم الأمكنة تحولاتها ، فالمكان الذي تسكن فيه اذ تهجره يستحيل لا مكانا ، والمكان الذي تذهب اليه من جديد هو المكان . عندما يكون المكان موضوع معايشة وعناية وتجربة يصبح مكانا ، وله خصوصية تلك التجربة والمعايشة التي الفها. واذ يهجر المكان يفتقد بذلك الى الكثير من مكانيته . فعندما نغادر البيوت تصبح خربة ، يسكنها التراب والظلام والصمت ، يسكنها الغياب . المكان الذي تسكنه هو ليس ذاته المكان الذي تغيب عنه ، المكان المهجور هو مكان اخر . وقد يكون المكان مكاني اذن ، وما ليس بمكاني ما ادراني بمكانيته ، فقد يكون لا مكانا .
البيت الذي اسكنه لست افتقد السكن في سواه ، البيوت التي نسكنها صغيرة اوكبيرة ، البيوت الصغيرة ليست صغيرة حقا ، والبيوت الكبيرة ليست كبيرة الى هذا الحد . في البيوت الصغيرة يبدو الفضاء كافيا ، والاشياء قريبة ومتاحة وعند المنال ، والاشخاص الذين يشاركونك المكان موجودون امامك وقريبون ، والعائلة التي تسكن البيت تجد سريعا اشياءها التي تريد ، كما انها لا تسكن معها الا الاشياء التي تريد ، فالبيت صغير ولا يتسع الى المزيد الفائض من الاشياء . انت وعائلتك وما تجنونه معكم لحاجة اليه ، وبمحبة ، تسكنون بيتا لا يعود صغيرا كما قد نتوهم ، بل كافيا . والبيت الكبير يتيه فيه الاشخاص عن بعضهم ، وتتيه عنهم الاشياء وهي تزداد وتتعدد كي تملأ الفضاءات ، وتشغل الجدران وتتباعد بأثر تباعد الجدران ، فالفضاءات واسعة تعبرها خطوات الاشخاص العديدة والطويلة ، وهم يتوزعون في الغرف والصالات ، حيث فضاء الجلوس ومشاهدة التلفاز ، وفضاء اخر كي يلهو فيه الاطفال ، وفضاء ثالث تجالس فيه سيدة المنزل جليساتها ، فضاء الجلوس هو الان فضاءات ، وفعالية الجلوس هي الان متعددة ومختلفة ، ويومك هنا مفتت وممدود في عديد الفضاءات واتساعها ، ومجلس العائلة مفتت هو الاخر، فللرجال مجلسهم وللاطفال وللسيدات ، والعائلة موزعة بين متاحات الجلوس والاستعمال ومتعدداتها من الصالات العديدة والواسعة ، فالبيت كبير والاشياء التي تسكنه كثيرة وكبيرة ، النافذة كبيرة والباب كبير، والجدار ومربع البلاطة وشاشة التلفاز وطاولة الطعام وخزانة الثياب والكرسي الهزاز ، كل الاشياء هنا كبيرة ، ويصبح البيت وهو يتسع لك ولعائلتك وللمزيد من الاخرين يقصدونك يوما ما ، والاشياء ايضا ، ماتلح الحاجة اليه الان وما يحتمل ان تقصده في القادم من الايام ، يصبح البيت الكبير افق ما تأمل ويأملون ليس كبيرا وحسب ، بل فائضا .
لك ان تسكن ركنا في العالم ، يسعك وتجد طريقك اليه في هدوء وصبر ، وليس لك ان تسكن بقية العالم ، في بقية العالم يسكن ما يتمكن منه الاخرون .
*معمار عراقي
العودة للعــــدد الثالث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق