الجمعة، 4 يونيو 2010

قلق المعرفة


قلق المعرفة




إن المفكرين الحقيقيين قليل في هذا الورى, والمشككين الحقيقيين أقل منهم, أما المطمئنون إلى كل شيء فملء الأرض... وأفتك أوبئة الإنسانية , ذلك الاطمئنان الداخلي , مرض الدهماء الذين يعومون في زبد أنفسهم , ولا يغو صون في لجتها , تلهيهم ثرثرة الساقية عن صمت النهر الهادئ حيث الحيتان الضخمة التي تبتلع حوت يونان ...

مارون عبود / قدماء ومجتر ون (1948) ص 13 .








يتغلغل الكاتب سعد البازعي من خلال مؤلفه (قلق المعرفة . إشكاليات فكرية وثقافية ) في ثنايا السؤال : لماذا تنطوي المعرفة على قلق دائم ؟ وقد أفرد مناحي عدة للإجابة عن هذا التساؤل ففي( أ. قلق الأطر )الفصل الأول من الكتاب الذي يعالج إشكالية (جمهور الثقافة أم ثقافة الجمهور ) ؟ يقول (ما أشير إليه هو ما عرفته الثقافة العربية منذ أواسط هذا القرن , وبالتحديد مع حركات التحرر من الاستعمار وانتشار المد اليساري سياسياً وأيديولوجياً . فمع انتشار أدبيات هذه الاتجاهات وما رافقها من أنظمة سياسية وحزبية تبدل الحال بالجماهير وارتقت مكانة ما عهدتها منذ الشرف الرفيع الذي أسبغ عليها في أزمنة مضت . غير أن الجماهير وهي ترتفع عن الغوغاء والدهماء فإنما تفعل ذلك على سلم قيم مغايرة وبشروط حضارية مختلفة إلى حد ما عما سبق أن عرفته ) .




ثم يتساءل ما طبيعة الصلة التي تربط الفكر بالانتماء ألإثني ؟ عبر الفصل الثاني (الفكر وأسئلة الإثنية ). إذ يقول (لعل من أبرز الأمثلة في الغرب ما نجد في مدرسة فرانكفورت الألمانية . فمما يلفت النظر , وإن لم يلتفت إليه غالباً في الدراسات المتعلقة بتلك المدرسة في العالم العربي خاصة , أن معظم أفرادها كانوا مفكرين ألمان من أصل يهودي ابتداء بهوركهايمر ومروراً بأدورنو وماركوز ووصولاً إلى إريك فروم . وقد يكون الاستثناء الوحيد هو هابرماس . النتاج الفكري لأولئك , حين نستثني هابرماس , يحمل هموم جماعة واضحة الانتماء الإثني سواء في ما كانت تدعو إليه أو في ما كانت تقاومه أو تحتج عليه ) .





ثم يتناول الكاتب علاقة الديني بالأدبي ليطرح البازعي سؤالاً مهماً: ( السؤال ليس عن حضور الدين في الأدب من عدمه , فهذا بدهي لا يحتاج إلى تبيان . ما يحتاج إلى تبيان ويستثير الجدل والاختلاف هو عن كيفية ذلك الحضور . فإذا استثنينا الأعمال الأدبية التي يحضر فيها الدين على سبيل النفي , كالأعمال الإلحادية أو المتعلمنة ذات التوجه الأيديولوجي المضاد للتدين عموماً , وجدنا الأعمال الأخرى تختلف من حيث طبيعة الحضور الديني ودرجاته . ولو حصرنا الحديث هنا في الآداب الأوربية لأسباب ستتضح في سياق المناقشة , لوجدنا أنه في ملحمة دانتي في (الكوميديا الإلهية ) يحضر الدين حضور معتقد يؤمن به الشاعر إيماناً راسخاً , فهو يصدر عن رؤية مسيحية للعالم وللإنسان ) .

وهكذا عبر (حدود الفن ) و (هل هناك فلسفة عربية معاصرة ) وقلق المفكر , الفصل ب من الكتاب الذي يضم ثلاث مقالات حول عبد الوهاب ألمسيري . ثم الجزء ج 0 قلق الحوار ) قلق التفلسف مقالتان حول الجابري و.د. إدوارد سعيد قلق الانتماء .و. هـ . قلق المعاصرة . و. و. قلق التنوير . حتى (الكتابة بين الشارع والشاعر ) يقول الكاتب (أولئك الذين يعيشون في العالم الأقل احتشاداً بالحرية قد يتحفظون على مقولة أن القارئ يقرأ "ما يرغب فيه " , لكنهم سيتفقون تماماً مع مقولة أن الكاتب "لا يكتب ما يرغب فيه, وإنما ما يستطيعه" وأن انطلقوا في ذلك ليس من المنطلق الإبداعي أو الفلسفي فحسب , وإنما مما لم يخطر ببال الكاتب الأرجنتيني على الأقل حين أطلق مقولته تلك . في كل الحالات , ما يقوله بورخيس يظل صحيحا في وجهه الإنساني العام , مع إمكانية أن نعيد صياغة العبارة لتصير : نحن أقدر على قراءة ما نريد منا على كتابة ما نريد . ) .





عبر فصول الكتاب ينحى الكاتب منحىً تأويلياً للتقريب بين فهم التلقي كإشكالية يشترك فيها طرفا العملية الباث والـمُستقبِل وبين القلق المعرفي من أهمية المادة المتلقاة .




الكتاب : قلق المعرفة /إشكاليات فكرية وثقافية .

المؤلف: سعد البازعي / الطبعة الأولى 2010 /عدد الصفحات 256 .

الناشر : المركز الثقافي العربي



العـــــــــــــــــــــــودة للعـــــــــــــدد الثالث


ثقافة الترجمة / ترجمة الثقافة - كتب د. عادل الثامري



ثقافة الترجمة / ترجمة الثقافة

*د. عادل الثامري


تتعدد مصطلحات التلازم بين "ترجمة" و "ثقافة" و يمكن أن نميز أربعة مصطلحات رئيسة: ترجمة الثقافة /ثقافة الترجمة/ الترجمة الثقافية/ الثقافة الترجمية؛ ومن الصعوبات المألوفة في دراسات الترجمة تلك الإشكالية القائمة بين المقاربات التاريخية و السنكرونية لتحليل و توصيف ثقافة الترجمة، إذ يمكن أن نقدم ثقافة الترجمة بوصفها مجموع الأنواع المختلفة من النصوص المترجمة و يمكن أن توصف على إنها الهرمية المنتظمة للأنواع المختلفة من الترجمات ذاتها؛ تفترض المقاربة الأولى عددا من اللغات لغرض التوصيف و التحليل في حين تفترض المقاربة الثانية لغة واحدة فقط.



"ترجمة الثقافة" مصطلح يختص بالموضوع و هو ممارسة نقل النصوص الثقافية من اللغة الأصلية المنتجة لها إلى لغات أخرى مستقبلة و متفاعلة معها أي النصوص؛ أما ثقافة الترجمة فتختص بالموضوع أيضا .. النظر في الترجمة من جوانبها الثقافية أي الخصائص الثقافية الكلية لها؛ أما ما يختص بالمنهج فهما المصطلحان الآخران – الترجمة الثقافية أي ممارسة الترجمة بإتباع منهج يستمد مبادئه من التقريرات و المقولات الثقافية _ و الثقافة الترجمية أي النظر في القضايا الثقافية باتباع طرق تستمد أصولها من التجارب العملية و الرؤى النظرية للترجمة.



تظهر الترجمة -من خلال هذه المنظورات- آليات مهمة لأداء الثقافة: ان التأويل السيميائي للترجمة ابتدءا من ياكوبسن و انتهاء بـأمبرتو ايكو في مؤلفه "تجارب في الترجمة" (2001)- قد أكد على أهمية فهم الثقافة و نتيجة لذلك يمكن توصيف مدرك الثقافة على انه صيرورة الترجمة الكلية؛ و المساهمة القيمة الأخرى لنظرية الترجمة قدمها باختين في مؤلفه الذي ظهر باسم فولوشينوف" الماركسية وفلسفة اللغة" و لوتمان عبر تكامل تحدارين(Traditions) في سيمياء الثقافة مما قاد إلى مجاورة مدركات مثل الحوارية و الاستقلالية _ الهجنة Creolization و تعدد الأصوات و الترجمة.



تعد القابلية الترجمية لثقافة ما معيارا مهما من معايير خصوصية الثقافة و تفردها طالما ان الثقافة لا يمكن ان تشهد تجديدا إلا من خلال استيعابها لنصوص جديدة؛ لقد أصبح الحد الفاصل بين دراسات الترجمة و الدراسات الثقافية اقل وضوحا بعد توسع إبدال ما بعد الكولينيالية ليشمل دراسات الترجمة . و في نفس الوقت انبثق تكامل ملحوظ بينهما. لقد تنامى و تعمق فهم القيمة الثقافية للنص المترجم و خصوصا فيما يخص أهمية الترجمات لهوية الثقافة المتلقية.

في كتابه " فضائح الترجمة" اطلق فينوتي مصطلح "سلطة تشكيل الهوية" على قدرة التراجم في المشاركة في ضمان تماسك و انسجام الثقافة و كذلك تنشيط المقاومة الثقافية أو صيرورات تجدد الثقافة. و بالمقابل بدأت الدراسات الثقافية بتقييم مفهوم الهوية من خلال الثقافة و بسبب فعالية موضوع العولمة و التعارض بين العولمي و المحلي توصلنا إلى فهم أن المجتمع الذي يأمل في تفعيل خصوصيته لا يمكن أن يغفل النظر في الهوية الثقافية. و أطلق على فهم الحاجة الكبرى للهوية الثقافية لاستيعاب التنمية الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية مصطلح" الانعطافة الثقافية": يقول سيغرز أن هذه الانعطافة تعني أن التطورات السياسية و الاجتماعية المعاصرة و كذلك التطورات الاقتصادية و التكنولوجية العولمية او المحلية لا يمكن فهمها إلا من خلال مفهوم الهوية الثقافية.



تواجه الدراسات الثقافية إشكاليات على مستوى السرد و مستوى الميتاسرد: على مستوى الميتاسرد تحاول دراسات الترجمة توفير حلول لنفس الإشكاليات و بذلت جهود حثيثة في هذه الدراسات لتنظيم "الميتالغة" الخاصة مع ظهور صعوبات في الفهم في التحدارات البحثية المختلفة لدراسة الترجمة و ظهرت دعوات الى كتابة دراسات الترجمة بلغة قابلة للفهم و الاستيعاب و في المقابل كانت هناك محاولات لخلق قابلية ترجمة ممنهجة يمكن من خلالها مقارنة نظريات الترجمة المختلفة او البحث في إمكانيات تداخل الحقول. و على مستوى السرد، هناك إشكالية الطبيعة الثانوية للترجمة. فالصعوبات التي تظهر في كتابة تأريخ للترجمة تبين ان التحرك عبر الحقب و الكتاب المترجمين و الأعمال المترجمة او المترجمين لا يضمن توصيفا فيما يتعلق بالمحتوى ؛ لذلك فان ثقافة الترجمة لحقبة معينة يمكن النظر إليها بوصفها عددا معينا من النصوص المترجمة او بوصفها هرمية من أنواع الترجمة. نتحدث في الحالة الاولى عن الاختيار والسياسات الثقافية و المخزون الثقافي و اشتغال النصوص المترجمة في ثقافة جديدة و يمكن ان نستعمل لغات مختلفة للتوصيف. و في الحالة الثانية نتحدث عن الترجمات ذاتها و طرق الترجمة و أعمال المترجمين و هنا نحتاج إلى مصطلحات مقارنة للإشارة إلى أنواع الترجمة و من ثم هنالك حاجة لميتالغة موحدة.



يظهر إننا الان على مفترق طرق لتحديد الاتجاهات و السياقات الخاصة لعملنا الترجمي في ظل الحركة الكبيرة للعولمة وإرهاصاتها الثقافية في المجتمعات الإنسانية المختلفة.

*أكاديمي عراقي


العــــــــــــــودة للعــــــــــــدد الثالث


رؤيـــة - الفارغ والممتلىء .. تناغمات وتنافر - كتب زيد الشهيد

رؤيـــة

الفارغ والممتلىء .. تناغمات وتنافر

* زيد الشهيد

الحاجةُ محاولةُ ملء الفراغ .. سعيٌّ لدخولِ الأفكار حيّزَ التطبيق . والحيّز مدىً مكاني تشغله مفردات وجودية لها أبعادٌ تُقاس بمديات قناعة الذات ... حين تجد الذات أنَّها باتت راضيةً عن نجازةِ تلبيةِ الحاجة يكون الفراغُ قد امتلأ . عندها تستحيلُ مفردةُ الفراغِ إلى نقيض لها بالمعنى ، فينبثق الامتلاء ، ويغدو الفارغ ممتلئاً .


النجازةُ عمليةُ تكريسِ الامتلاء .. صيرورةُ انتهاءِ الفراغ . وبناء على مبدئية ( نفي النفي ) يأتي الامتلاءُ من رحمِ الفراغ لكنَّه يتكرَّس نقيضاً فيتشكَّلا قطبين متناقضين ..


الفراغُ في أحد أوجهه بعدٌ مكاني مؤطَّر بزمن .. لا يوجد مكانٌ لا تشيعُ فيه رائحةُ الزمن .. الزمنُ يشيع في فضاءِ المكان مستحيلاً مُعادلاً موضوعياً للفراغ . وهنا يغدو الفراغُ كينونةً زمكانيةً تحتاجُ إلى أداةِ تكريسِ ما بعد تواجده ؛ أي تلغي هويتهُ لزمكانيةٍ أخرى نقيض لها تحملُ هويةَ الامتلاء ..


منذ الأزل شغل الإنسان هذان التوجهان المترافقان المتوازيان .. كانا له بعدين لهما ارتباط جدلي في استمرارية تأريخه وإعلانه أنه : أنجزَ هنا فملأ ، وتقهقرَ هناك ففرغ ، وسط صراع ديمومي مع قوى تهدده بالفراغ بينما يقارعها بالامتلاء .. فمسلة ( صيد الأسود ) التي ترينا شخصاً يصرعَ أسداً خلفه ويُنبت ثلاثة أسهم في رأس أسدٍ ثانٍ ثم يرمي سهماً آخر من قوسه لأسد ثالث مهاجم تمثل زمناً سومرياً يكشفُه الوجه الملتحي والشعر المسترسل على الكتفين مربوطاً بما يُشبه العقال فيما الثوبُ يهبط أدنى الركبتين والحزامُ العريض يشدُّ الخصر ، وهي صفاتٌ ظاهرة تضعنا على مصافي عهدٍ ما زال بعيداً عن الميلاد بما يزيد عن ثلاثةِ آلاف عاماً كان فيها الإنسانُ لا يهدأ ، ولا يركن إلى السكون .. حياةٌ مشغولةٌ بالديدن اليومي للعمل خروجاً من ربقة الفراغ الباحث عمّن يملؤه .


الزمنُ محفِّز فعّال لخلقِ الضرورةِ الناحية باتّجاه الامتلاء تجاوزاً للفراغِ حيث الفراغُ كثيراً ما يعهد بعدَّتِه إلى حالةِ السأمِ ليطيحَ بهيبةِ الامتلاء .. الفراغُ حين يطول زمنُه يخلق مبرراتِ الضجر . يتناسلُ صيرورةً شعوراً بالتذمر / إحساساً بالضيق .. من هنا ، وبلا هوادة يدعو بودلير الخائضين في سديم الوعي الفائر على الدوام ، أولئك الرافلون على أديمِ الأسئلةِ المتناسلة عن الجدوى أو اللاجدوى والزمن الذي لا يرحم حد الامتلاء ، تجاوزاً لهيمنةِ الفراغ وسطوته وجبروته ، يدعوهم إلى أن يسكروا ، إلى أن يتجاوزوا الركود ، إلى أن لا يركنوا إلى اللامبالاة ظنّاً منهم أنَّهم بفعلتِهم هذه ستأخذُهم أعاصيرُ الفراغ إلى بِطاح راحةِ البال أو جنائن السهو .. إنه يخاطبُ حاملي الوعي المتجيّش عند جبهةِ الأسئلة إلى أن يسكروا سكرَ الولوج إلى مدنِ الاكتشاف والتفاعل الديدني.. المدنُ التي تعرض عليهم فنونَ الإبداع وتنده بهم إلى الاحتراقِ من أجل الخلقِ القويم (( فلكي لا تشعروا بعبء الزمنِ الفادح الذي يحطم كواهلكم ويحنيكم إلى التراب ، لا بدَّ لكم من أن تسكروا بلا هوادة )) ، ويضيف متسائلاً : (( ولكن بماذا ؟ بالخمر أو بالشعر أو بالفضيلة ، بحسب ما تهوون . ولكن اسكروا . )) ص108 سأم باريس .. إنها دعوة للامتلاء تخلصاً من الفراغ ..


الفراغ والذات


قد يبدو الفراغ من نافلة التوجّه نحو تدميرِ الذات بغية الامتلاء .. الامتلاء الذي يظنه الضائع في دروبِ الأفكار الفارغة نوعاً من الخلق المُثمر دون الرسو على النتائج التي قد تنبثقُ مدمّرةً تُطيح بهيبةِ الاثنين ( الفارغ والممتلىء ) .. نتائجُ لا يمكن إلا أنْ توصف بالعبثِ الماحق الذي يصنع أضراراً لا قِبل للبشرية على تحمُّلِها ولا الإنسانية على استيعابِها .. فراغٌ أبجديته القتلُ والدمار / التخريبُ والدم / البغضُ والكراهية / التجاوزُ على الآخر والاعتداءُ بجنونٍ وصولاً إلى الامتلاءِ السادي ، ظنّاً من مالئي هذا الفراغ أنهم يرسمون سيرةَ العصر الأمثل . عن هذا يكتب أدونيس واصفاً مدن الفراغ العبثي لهؤلاء الرماديين (( عندما زرتُها كان النهار قفصاً ، وكان الضوء يتأوه . غير أنني كنتُ أتعلَّم كيف يكون البكاء أحياناً حبراً للفكر ، ومادةً للعمل ، وكيف يغطُّ البشرُ أقلامَهم في محابر الموت ، من كل نوع ، ويكتبون سيرة العصر . )) .ص123 [ الكتاب الخطاب الحجاب ] ..


في الإسلام يتكينن الفراغ خاتمة لحركية يومية تمتلىء فيها حاجات المسلم بانغماره في عمله المادي اليومي ليمتلىء بالمعنوي الروحي الذي يجعله قريباً من جوهر الدين الذي هو الفبائية الوصول إلى الله ..
وفي المسيحية يدعو الرهابنة والسائرونَ على دربِ السماحة أتباعَ المسيح ومحبّوه إلى (( الامتلاء بالروح )) وهي دعوة صوفية تدفع المؤمنَ بنبيِّهِ إلى أن يمتلىء بروحه السَّمِحة نأياً عن الفراغ الذي قد تملأه الكراهية أو التجديف . الامتلاءُ بالروح عندهم وعيٌّ بحبِّ الخير ، بنبذِ ما يؤلِم البشر ، بخلقِ انسجامٍ حييٍّ وعاطفةٍ مُدافة بالحميمية . لذا يستحيلُ الامتلاءُ عندهم إيماناً والفراغُ جحودا ..

الناص والنص


عندما ينتهي الناص من تدوين نصٍّ ويتلقّاه القارىء بلذاذةٍ ، رافلاً على ثراه بمتعةٍ فانَّ ذلك يغدو مبعث سرور يحقق فيها الناص الامتلاء في الكتابة ، والمتلقي بالقراءة . ويصبح النص ممتلئاً ليس على غرار النص الذي تتعثر ذائقةُ التلقي في تناوله فيستحيل محطةَ امتعاض وانطلاقة تذمّر تُقر بفراغه ولا أهميته .


.. في مضمار السرد ملأ كافكا فراغاً كان يكتسح يومه ويتضخَّم عند مراتب انفعالاته متجاوزاً متواليات النكوص النفسي والتقهقر الروحي بالكتابة .. كانت الكتابة بكلِّ إبعادِها الهلامية والهيولية تملأ فراغه ، مستلاً منها ما هو كابوسي / ضجري / كاتم كاستعانةٍ تجعله يضئِّل نسبةَ الفراغ فيكبر قَدَر الامتلاء ، مستعيناً بالقلمِ والورقة تنفيساً لضجيج الانفعالات وهياج الوعي المتفاقم ... وفي التشكيل كان على ليوناردو دافنشي أن يملأ فراغ لوحة ( الجيوكندا ) بعد أن انتهى من تكريس " الموناليزا " " شكلاً " مهيمناً على المكان .. كان عليه أن لا يملأ الفراغ بما يُسلب عينَ الناظر من شخص " المونا " .. أراد الفراغَ إكسسواراً لا غير .. خاف على العين أن تهرب من سحر " شكله " حين تقف – أي العين – تتملّى .. شكَّلَ الفراغ هنا هاجساً لا بدَّ أنّه أقضَّ مشاعرِ الفنان الذي جهِد على جعلِ العين لا تغفَل ولو للحظةٍ واحدةٍ عن " المونا " . لذا رمى على الفراغِ الجبالَ والضبابَ والدكنةَ القهويةَ الثقيلةَ ، فبرز الامتلاءُ في امرأةِ اللوحةِ وتركَ الفراغَ يمثّل وجودَه فراغاً وإن هو سعى لملئه ..


لدى الانطباعيين من امثال مونيه وبيسارو ورينوار وسيسلي وايدجار كان الامتلاءَ لوناً ، هشَّم الفراغ وأطاحَ بهيبته . منح البهرجة بالامتلاء على حساب الفراغ الذي قد يظنه المتطلِّع فراغاً لا غير . حاوروا المكان صباحاً ليجيئوا إليه ظهراً ، ومساءً فينتجوا نصوصهم التشكيلية من نفس البقعة ، من ذات المكان مقدّمين التأثير الزمني / الضوئي عليه؛ وهي محاورة أنتجت نظريةً استمرت محببّة ومرغوبة لعقود عديدة أساسها الامتلاء باللون ..
قد لا تجد في النص التشكيلي عند الانطباعيين _ ولا سيما مَن أحبوا الطبيعة والريف من أمثال بيسارو وسيسلي - امتلاءً بشرياً لكنك تراه شيئيّاً فاعلاً ، مُفعم بالديمومة الضاجة بالحياة ، تمنحه الأشجار بانتصابها الشامخ ، والبُركة بهدوئها العذب ، والسماء بما تستطيع من دخول على اللوحة بغيمة بيضاء أو صفاء لازوردي ، والقنطرة بانتظارها الشغيف أقدام عُشاق أعلنوا موعداً في منتصفِها ، وقرروا في لحظةِ هيامٍ أن تكون – تلك القنطرة – شاهدةً على عشقٍ تتداخلُ فيه الأنفاسُ الحرَّى الولهى وتمتزجُ لتخلقَ روحاً موحَدّاً .



تضاد الامتلاء .. الفراغ


في الوقت الذي نجيزُ للفراغ أن يُزاح ليأخذَ الامتلاءُ حيزَه ؛ وفي الآن الذي يشعرنا الامتلاء بنجاح المسعى في التغلب على الفراغ تُجبرنا الحاجة على التخلّي عن الامتلاء لتحقيق الفراغ دون خسارة ؛ بل شعور بالارتياح ، وهي مُحصِّلة قد يتبادر لذهن الرائي أنّها مبعثُ غباء أو تحسسُّ بلادة ، لكنَّ الحاجةَ تفرض مسبباتِها لإقرارِ النتائج . هذا ما يحصل للعقل الباطن حين يمتلىء . آنذاك تنبثقُ حاجةُ الإفراغ فتصبح حتميةً .. إنَّ علم النفس يعلِّمُنا أنَّ العقلَ الظاهر لحظةَ إقراره بعجزِ حلِّ مشكلةٍ - تنتصب أمامه - يدفع بها إلى الوراء / إلى مملكة العقل الباطن / إلى حيث التخزين في فضاء الحجيرات فتملأها .. يتحقق الامتلاء وفق فرضية ضرورة الإفراغ . أي أنَّ الممتلىء يصار إلى مَن يحقق الفراغ . وهذه مهمّة تناط بالأحلام ساعة هدوء أوار العقل الظاهر وابتداء نشاط العقل الباطن ... تتبدد جزئيات الامتلاء بصور حلمية ، برقية خاطفة ، متسارعة بلا أواصر .. أي مشتتة ، مبعثرة . همُّها أن تبرح مكامن الاحتدام ، أن تخرج من زحام الامتلاء ؛ فإذا بالنهوض بعد النوم صفاءٌ ، وإذا التوجّه إلى مصافي الصحو نعيم ...


امتلاء يقود إلى فراغ ..


الامتلاء تنــوِّع


الامتلاء عند النبات ماء ، ونمو ، وثمر ؛ والفراغ جفاف ويباس .
الامتلاء عند الحيوان إشباع غريزة والفراغ جوع قاتل .
الامتلاء لدى البشر نجاح يقود إلى سعادة ؛ يتلبسون لبوس الظفر بينما الفراغ لديهم لافتة للهامش غير المجدي أو هو نوع من أنواع الفشل إن صح التعبير .. لهذا يهرب البشري من الفراغ / الفشل هروب الملتاع المتطيّر إلى النجاح / الامتلاء كشوق التائق الشغوف . ألم يقل الفيلسوف الإغريقي آخيلوس القادم من القرن خامس قبل الميلاد (( البشر لا يشبعون مطلقاً من النجاح )) ؟.. هروب البشري صوب الامتلاء يأتي جرّاء خشية على مصير يعتقده مجهولاً مهما انهالت عليه الأديان بالمواعظ وأمطرت عليه الحكم كواكب من نور ، واعدةً إيّاه بجنان خُلد لا انتهاء لها .. هروب البشري من شبح الفراغ الذي يعني تلاشيه يكرّسه هلعاً الشعور بمقدم الموت .. يبغي الامتلاء ( الحياة ) منعاً لتذكّر الفراغ ( الموت ) تشبثاً بأمل مجهول في مد ديمومي مبهم . ولمنع هيمنة الشعور بالفراغ تسعى المناشيء التعليمية الإنسانية إلى إشاعة جو الأمل انسلاخاً من جثومية الألم .. ما زلت أتذكر المقولة الأملية (( قل امتلأ الكأس نصفه ، ولا تقل فرغ الكأس نصفه )) التي كنّا نتلقاها في المدرسة كموضوع إنشائي يدعو إلى التفاؤل ( الامتلاء ) لا إلى التشاؤم ( الفراغ ) .. ما زلت أتذكر ذلك الطالب الشجاع في المرحلة المتوسطة الذي راح يتحدث عن الفراغ في الكأس متجاهلاً الامتلاء منه ، مناقضاً دعوة مدرس العربية الذي عاقبه بدرجة هابطة بعذر أن إجابته خاطئة من جذرها مع أن ما كتبه ذلك الطالب أفضل بكثير - لغةً وأسلوباً - مما كتبناه نحن .. لم يكن ذلك الطالب يشعر بالامتلاء في والوجود بل عبّر عن الفراغ في ما نعيش (( هل كان المدرس رافضاً فعلاً ومن خزين مشاعره وأعماقه لفحوى ما أفصح عنه زميلُنا الطالب أم كانَ يوافقه الرأي في الفراغ بيدَ أنّه لا يبغي إشاعة الألم النابع من اللاجدوى التي شعر بها الطالب قبل غيره من الطلاب ؟ ))


* شاعر وقاص عراقي

العـودة للعــدد الثالث

الخميس، 3 يونيو 2010

سؤال الكتب المستنسخة ؟ - كتب هيثم جبار عباس


سؤال الكتب المستنسخة ؟


هيثم جبار عباس



بدأت ظاهرة استنساخ المطبوعات في العقد الأخير من القرن المنصرم , ففي الثمانينيات كانت الحكومة العراقية منشغلة بالحرب , إذ إن المثقف العراقي لا يستطيع ان يفكر باستنساخ حرف وليس كتابا , اما في التسعينيات اشتهرت الكتب المستنسخة وخاصة في بغداد , وكان سبب استنساخ الكتب هو سبب سياسي لا غير , حيث كانت الكتب السياسية والدينية هي الكتب الممنوعة , فيضطر بائعو الكتب استنساخ بعضها للاسترزاق أو لأمور أخرى , إلا ان الملفت بعد سقوط النظام لما تزل الكتب المستنسخة , ولهذه الظاهرة أسبابها بالتأكيد , فهناك من يقول ان استنساخ الكتب يرجع إلى ارتفاع أسعار الكتب الأصلية , ففي شارع المتنبي إذا أردت أي كتاب غير متوفر في السوق يستطيع بائع الكتب او صاحب مكتبة ما ان يجلبه لك بطريقة الاستنساخ بسعر قليل نسبيا من سعر الكتاب الأصلي , كـكتاب ( مدن الملح/ التيه ) لــ عبد الرحمن منيف, وثمة من يقول ان استمرار عملية الاستنساخ للكتب هو الحصار الثقافي الذي ُضرب من قبل دول الجوار والدول العربية على العراق بعد سقوط النظام , فهناك هوة شاسعة بين الثقافة العراقية وثقافة العالم , اذ لا يوجد أي تلاقح ثقافي او فكري او معرفي بين الثقافتين , فيلجأ بعض أصحاب المكتبات إلى استنساخ الكتاب الواحد الذي يحصلون عليه بطريقة او بأخرى الى عشرات النسخ , لذا نرى بعض الكتب الأدبية الحديثة معروضة بالاستنساخ , إلا ان بعض المثقفين من يعزو هذه الظاهرة الى وجود صراع فكري بين ثقافتين , فهناك من يروج الى ثقافة الانفتاح على جميع الأفكار ,وهناك من يروج الى ثقافة دينية ترفض الأولى وتكبحها بالقوة , والدليل على ذلك لا يوجد اليوم كتب دينية مستنسخة بل أعيد طبعها من قبل مؤسسات دينية عملاقة بإمكانياتها المادية , وكتبهم الحديثة مستمرة بالطبع والنشر دون استنساخ , كما أكد هذا القول بعض أصحاب المكتبات , حيث قالوا : توجد بعض الجماعات غير الرسمية ممن نصبوا أنفسهم مراقبين على بيع الكتب وعرضها في المكتبات , خصوصا الكتب المناهضة للأفكار العقائدية المتجمدة ككتاب ( محنتي ) للكاتب المصري عباس أبو النور , وكتاب ( الشخصية المحمدية ) لــ معروف الرصافي !!! وهنا نود ان نطرح سؤالا اذا كانت هناك قوة قد غيرت وأزاحت نظاما دكتاتوريا جمد المثقف العراقي على مدى خمسة وثلاثين عاما , وامتص مداده وجعله عرضة للتهميش ,وأصبح هو في وادٍ والعالم بوادٍ آخر , إذن بعد سقوط النظام هل ولدت دكتاتوريات جديدة ؟؟ وأي قوة نحتاج لإزاحتها ؟؟؟ نطرح هذا السؤال .



العــــــــــودة للعــــــــــدد الثالث

الأربعاء، 2 يونيو 2010

إنشاد حامل الجمر " نشيج الواقع الأسطوري " -حسين عبداللطيف



إنشاد حامل الجمر

" نشيج الواقع الأسطوري "


حسين عبداللطيف




يتشقق كلّ حي لا يجد حريته

فانوساً ينير مسالكه

تحملْ

تحملْ

تحملْ

وابتسم



ماذا يريد هذا ( الديوجيني ) ذو السحنة الغامضة ، الذي يعرج من الحبّ ، ويتصاعد بالرؤى ، وهو يرفع مصباحه في وضح النهار ، وابتسامة السخرية ترتسم على شفتيه ، أن يرى ؟ حـديقة مزهرة ! .. مرعى تمرح فيه الغزلان ! أم إزاحة الظل عن كتابة تركّز على السلب والطرد وغايتها نفي ما هو مرذول وقائم ، في واقع مدلهم مسور بالرعب والتوتر والشظايا والرماد مسلوب الإرادة ، اسود ومنخور ، أتراه يحلق عاليا في أجواء فضاءاته الشرقية ، بعد ، بإصرار من لا يريد أن يبطل حلماً طموحاً أو أن تبارح عينيه النجوم ومن أين يتأتى لحنجرة ينبعث منها الدخان ان تتراسل معنا بالصداح :



كوكو ريكو

يفزع السادة

صوت مجنون



في " انشاد حامل الجمر " المجموعة الأخيرة لعادل مردان – دار أزمنة – عمان – 2008 – بعد عملية : فضاءات شرقية – دار الواح – اسبانيا 1999 ومن " من لا تحضره السكينة " – البصرة 2006 ربما على وجه الظن لا التأكيد – وجدنا في عنوانها ما يتصادى مع عنوان هايدغر " انشاد المنادي " الذي يحلل فيه شعر هولدرلن وتراكل .. ولكن المهم ليس هذا وانما المهم تداعيات هذا الواقع وانعكاساته علينا ثم ردود أفعالنا تجاهه بتحديه والجرأة عليه – دون استجداء – ومدّ اللسان له او الأستخفاف به :



بواقية السوَفان البيضاء

أحكي عن مدينة بلقع

رجالها يرتدون التزامت فرحين

حيث المزابل تفتح أفخاذها

للمزينة سواعدهم بالعقارب

حين يتم السحاق الضوئي

تولد مزابل أخرى




وما أن يجتاز تعثرنا ونتجاوزه حتى تعترضنا متوالية " بؤس فون " الورقة السابقة :



الفضاء يعتم ويضيق برعب

سيقطعنا الوقت :

لا عليك عجّلْ بالحتف

ها أنا استنفد و لا تأتي كلمة

البؤس ( مايسترو ) عيشنا

يملأ الجهات ضجيجاً ....




هذا هو الواقع العجائبي ، الأسطوري ، الذي ترفرف الغربان على أكتافه وينعق الخوف في شوارعه والذي يبدو وكأن المخيلة قد صنعته بعد أن استردت منه حقوقها كاملة غير منقوصة وعلى المنهج السريالي ، وقد بات مألوفاً فاضطرّنا لأن نتكيّف معه ونرضخ للعيش فيه ولشدة مألوفيته فما عاد يثير استغرابنا حتى وهو يسمنا بوسمه الناري ..



مع هذا فهذا الواقع الغرائبي المعيش هو نفسه الذي وفّر مناخات إنشاد حامل الجمر وأتاح له حرية الحركة والاستدارة والالتقاط وزاوية النظر وأيضاً الازدراء والاستخفاف والتهكم الى كونه مثابة او مرجعية للنصوص فقد كفل له دعوة متلقيه ليشاركه مائدته التي وضع عليها قطوفه الدانية من فاكهة الموسم ( الرصاصية ) وكرومه العنقودية وجراره المترعة بانبذة المرارة لا الماء النمير .. وثمة لهجة مخففة هنا – ليست سهلة أو بسيطة على أي حال – من ناحية الأسلوب أو صيغة التعبير – تبتعد عن التجريد والذهانية والغموض أو الترميز العويص تطلباً لاستجابة ملموسة من هذا المتلقي الذي عقد معه حلفاً – وهو يحنو عليه – بهذا المنحى ليخفف عنه العبء :




· النهار ينسلخ من الليل ، يدوّن مذكراته

العجائبية على وجوهنا .

· تدور دورتنا الكونية

مزلزل تاسوعها النيساني

· لو شاء لصرخ زقاق من التبرم

هكذا يستحث الأرقم عودته

فيلتف زقاق على نفسه

مزبلة أثر مزبلة

· أهيم على وجهي

تتشقق أقدامي في الوحل

شقية أمتي

زفيرها جمر

ولكن : لو كانت الأوطان مقطوعات موسيقية

لسهل حفظها عن ظهر قلب




واذ هي ليست كذلك فهو يكتب لكي يسكّن الألم ويرد على المرارة بالهزء .. والضحك – هنا – بموازاة الدمع والوجه طائر يتعذب ونحن معه :



نروح الى ارثنا بدموع زاهرة

في قلوبنا آب ذبحنا تموزه على الأمل

ولذا فالسكينة لا تحضر أحداً .... حتى لو نفض الشاعر يديه من هذا الواقع وانتهى منه فانه سيعود الى نفسه ، هذه المرة ، ليكشف عما في سريرتها او دخيلتها نازعا الى استبطانها وهو يتخارج مع واقعه هذا فهو ( على مسرح نفسه الضاج ) يحاور رسيله الآخر او يخاطب شبحه هو وأناه هذا الذي يمسك بتلابيبه ليذعنه لضغوطه وقسريته :




أدين لك بكل شيء

ملهمي و " على الراس "

بيدك الساحرة

بعيونك الألف

بإقدامك الوطاويط

صوفي الطريقة في النهار

ذرائعي محنّك بعد المغيب

خوارقك لا تعد

تلعب ( الدومينو ) مع المردة

لا لست حارسك الروحي

أنا وفيّك البار

بعد اربع كؤوس ينقلب المشهد

على مسرح نفسي الضاج

يجرّك ألمي من الأذن

ويقدّمك لجمهور من المظلات

وبعد هذه الديباجة التصويرية الفنطازية ودعاباتها السوداء ، نخرج الى نصـــه الأطول " لا تتأخر عند اللمح " الذي يتماهى فيه مع " المتنبي " السيف النائم والخيول الفارة ،متحدثاً عن محنته وسارداً لمثابات حياته وامثولاته منتهياً الى تمجيد الجوهري فيه :




محض كلام أنت

تذوب

وتسمو

بألوهة الشعر

وهكذا فلا مواز ٍ للكلمة سوى الأمل




وحامل الجمر يعامل " جلمود " و " ضيم " اسمي النكرة هذين لا بوصفهما إسما نكرة بل بوصفهما اسمي علم ومعرفة أو " كائناً " مثلما فعل رينيه شار مع شخصية " ريشة " التي أخترعها :




" ضيم " يغفو بمنامته المثقّبة وجهه متورم

احلقها لحية خرقاء ، اقرأ في برودة الضحوة

جذفْ في صيهود المولدات ، صحارى الغد أمامك

اصدح " ضيم " تنفتح انسكلوبيديا الفراغ

اغرزْ في قلب البركة حراشفك وارتعشْ

وفي " نشيد اللهب " نقرأ

في غابة اللهب يخطف السمندل

تتصاعد بالرؤى ، فالجمرات أنيسك

وحدك مع أطياف العسجد

يأخذك رواة .. ويسلمك رواة

حالماً بخليقة أخرى

فهل يمكن الأفلات من الطوق ؟

وهذا أدونيس يؤكد ان " الماء وحده ليس جواباً على العطش " وهو يرينا :

" النار في كل صوب ، أين ، اذاً ، سمندلات الحرية

التي حوّل النار الى ماء ؟ "

وحتى لو أمتلأت الأيدي بالماء أو ابتلت به الأرواح فـ " الماء وحده ليس جواباً على العطش " كما يعود ادونيس ثانية ليؤكّد .. فلا أحد يتمكن تماما من الانسلاخ عن جلده

وهل ثمة ماء ؟ وهل ثمة أمل ؟


أما يزال جان دمو يقطن ببيجامته التي هرعت معه من شارع النهر حتى سدني في استراليا ولم تُخمد بثاني اوكسيد كاربونها النارَ المشبوبة فيه ومن حوله !


والى أي وقت سيبقى حامل الجمر على نشيجه متقداً هكذا ؟




تكركر الكلمة

الكلمة نبع

تبكي الكلمة

الكلمة ينبوع



* شاعر عراقي



العـــــودة للعـــــــدد الثالث